الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)} {وَيُعَلّمُهُ الكتاب} عطف على {يُبَشّرُكِ} [آل عمران: 45] أي: إن الله يبشرك بكلمة ويعلم ذلك المولود المعبر عنه بالكلمة الكتاب ولا يرد عليه طول الفصل لأنه اعتراض لا يضر مثله، أو على {يَخْلُقُ} [آل عمران: 47] أي كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه أو على {يكلم} [آل عمران: 46] فتكون في محل نصب على الحال والتقدير يبشرك بكلمة مكلماً الناس ومعلماً الكتاب أو على {الله وَجِيهاً} [آل عمران: 45] وجوز أن تكون جملة مستأنفة ليست داخلة في حيز قول الملائكة عليهم السلام، والواو تكون للاستئناف وتقع في ابتداء الكلام كما صرح به النحاة فلا حاجة كما قال الشهاب إلى التأويل بأنها معطوفة على جملة مستأنفة سابقة وهي {إِذْ قَالَتِ} [آل عمران: 42] الخ ولا إلى مقدرة، ولا إشكال في العطف كما قال النحرير، وكذا لا يدعي أن الواو زائدة كما قال أبو حيان، فهذه أوجه من الإعراب مختلفة بالأولوية، وأغرب ما رأيته ما نقله الطبرسي عن بعضهم أن العطف على جملة {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 44] بل لا يكاد يستطيبه من سلم له ذوقه، و{الكتاب} مصدر بمعنى الكتابة أي يعلمه الخط باليد قاله ابن عباس وإليه ذهب ابن جريج، وروي عنه أنه قال: أعطى الله تعالى عيسى عليه السلام تسعة أجزاء من الخط وأعطى سائر الناس جزءاً واحداً، وذهب أبو علي الجبائي إلى أن المراد بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام سوى التوراة والإنجيل مثل الزبور وغيره، وذهب كثيرون إلى أن أل فيه للجنس والمراد جنس الكتب الإلهية إلا أن المأثور هو الأول، والقول بأن المراد بالكتاب الجنس لكن في ضمن فردين هما التوراة والإنجيل، وتجعل الواو فيما بعد زائدة مقحمة وما بعدها بدلاً أو عطف بيان من الهذيان بمكان. وقرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب وسهل ويعلمه بالياء، والباقون بالنون قيل: وعلى ذلك لا يحسن بعض تلك الوجوه إلا بتقدير القول أي إن الله يبشرك بعيسى ويقول: نعلمه أو وجيهاً ومقولاً فيه نعلمه الكتاب {والحكمة} أي الفقه وعلم الحلال والحرام قاله ابن عباس وقيل: جميع ما علمه من أمور الدين، وقيل: سنن الأنبياء عليهم السلام، وقيل: الصواب في القول والعمل، وقيل: إتقان العلوم العقلية، وقد تقدم الكلام على ذلك. {والتوراة} أفردا بالذكر على تقدير أن يراد بالكتاب ما يشملهما لوفور فضلهما وسمو شأوهما على غيرهما، وتعليمه ذلك قيل: بالإلهام، وقيل: بالوحي، وقيل: بالتوفيق والهداية للتعلم، وقد صح أنه عليه السلام لما ترعرع وفي رواية الضحاك عن ابن عباس لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى المعلم لكن الروايات متضافرة أنه جعل يسأل المعلم كلما ذكر له شيئاً عما هو بمعزل عن أن ينبض فيه ببنت شفة، وذلك يؤيد أن علمه محض موهبة إلهية وعطية ربانية، وذكر الإنجيل لكونه كان معلوماً عند الأنبياء والعلماء متحققاً لديهم أنه سينزل.
{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)} {وَرَسُولاً إلى بَنِى إسراءيل} منصوب بمضمر يجر إليه المعنى معطوفاً على {يَعْلَمْهُ} [آل عمران: 48] أي ونجعله رسولاً وهو الذي اختاره أبو حيان وقيل: إنه منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على يعلمه أي ويقول عيسى أرسلت رسولاً، ولا يخفى أن عطف هذا القول على {يَعْلَمْهُ} إذا كان مستأنفاً مما ليس فيه كثير بأس، وأما على تقدير عطفه على {يُبَشّرُكِ} [آل عمران: 45] أو {يَخْلُقُ} [آل عمران: 47] فقد طعن فيه العلامة التفتازاني بأنه يكون التقدير إن الله يبشرك أو إن الله يخلق ما يشاء ويقول عيسى كذا، وفيه العطف على الخبر ولا رابط بينهما إلا بتكلف عظيم، وفي «البحر»: إن هذا الوجه مطلقاً ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة؛ واختار بعضهم عطفه على الأحوال المتقدمة مضمناً معنى النطق فلا يضر كونها في حكم الغيبة مع كون هذا في حكم التكلم إذ يكون المعنى حال كونه وجيهاً ورسولاً ناطقاً بكذا، والرسول على سائر التقادير صفة كشكور وصبور، وفعول هنا بمعنى مفعل، واحتمال أن يكون مصدراً كما قال أبو البقاء مثله في قول الشاعر: رسولاً تروعه ويجعل معطوفاً على {الكتاب} [آل عمران: 48] أي ويعلمه رسالة بعيد لفظاً ومعنى، أما الأول: فلأن المتبادر الوصفية لا المصدرية، وأما ثانياً: فلأن تعليم الرسالة مما لا يكاد يوجد في كلامهم، والظرف إما متعلق برسولاً أو بمحذوف وقع صفة له أي رسولاً كائناً إلى بني إسرائيل أي كلهم، قيل: وتخصيصهم بالذكر للإيذان بخصوص بعثته، أو للرد على من زعم من اليهود أنه مبعوث إلى غيرهم. ولي في نسبة هذا الزعم لبعض اليهود تردد وليس ذلك في الكتب المشهورة والذي رأيناه فيها أنهم في عيسى الذي قص الله تعالى علينا من أمره ما قص فرقتان: فرقة ترميه وحاشاه بأفظع ما رمت به أمة نبيها وهم أكثر اليهود، وفرقة يقال لهم (العنانية أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت يصدقونه في مواعظه وإشاراته ويقولون: إنه لم يخالف التوراة ألبتة بل قررها ودعا الناس إليها، وإنه من المستجيبين لموسى عليه السلام، ومن بني إسرائيل المتعبدين وليس برسول ولا نبي، ويقولون: إن سائر اليهود ظلموه حيث كذبوه أولاً ولم يعرفوا مدعاه وقتلوه آخراً ولم يعرفوا مرامه ومغزاه) نعم من اليهود فرقة يقال لهم العيسوية أصحاب أبي عيسى إسحق بن يعقوب الأصفهاني الذي يسميه بعضهم (بعرقيد الوهيم) يزعمون: أن لله تعالى رسولاً بعد موسى عليه السلام يسمى المسيح إلا أنه لم يأت بعد ويدعون أن له خمسة من الرسل يأتون قبله واحداً بعد واحد وأن صاحبهم هذا أحد رسله وكل من هذه الأقوال بعيد عما ادعاه صاحب القيل بمراحل ولعله وجد ما يوافق دعواه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. هذا واختلف في زمن رسالته عليه السلام فقيل: في الصبا وهو ابن ثلاث سنين. وفي «البحر»: أن الوحي أتاه بعد البلوغ وهو ابن ثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين قيل: وثلاثة أشهر وثلاثة أيام ثم رفع إلى السماء وهو القول المشهور، وفيه أن أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وقيل: موسى وآخرهم عيسى على سائرهم أفضل الصلاة وأكمل السلام وقرأ اليزيدي ورسول بالجر على أنه معطوف على (كلمة) أي يبشرك بكلمة وبرسول. {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} معمول لرسولاً لما فيه من معنى النطق. وجوز أبو البقاء كونه معمولاً لمحذوف وقع صفة لرسولاً أي رسولاً ناطقاً أو مخبراً بأني وكونه بدلاً من {رَسُولاً} إذا جعلته مصدراً أي ونعلمه أني قد جئتكم، أو خبراً لمبتدأ محذوف على تقدير المصدرية أيضاً أي هو أني، فالمنسبك إما في محل جر أو نصب أو رفع، وقوله تعالى: {بِئَايَةٍ} في موضع الحال أي محتجاً أو متلبساً بآية أو متعلق بجئتكم والباء للملابسة أو للتعدية، والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور ما ينافيها، وقرىء بآيات. {مّن رَّبّكُمْ} متعلق بمحذوف وقع صفة لآية وجوز تعلقه بجئت، و{مِنْ} في التقديرين لابتداء الغاية مجازاً، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الامتثال لما سيأتي من الأوامر، أو لأن وصف الربوبية يناسب حال الإرسال إليهم. وقوله تعالى: {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} بدل من قوله سبحانه: {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} أو من {ءايَةً} أو منصوب على المفعولية لمحذوف أي أعني، أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أي: هي أني الخ؛ وقرأ نافع {إِنّى} بكسر الهمزة على الاستئناف، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإيجاد من العدم كما يشير إليه ذكر المادة، والهيئة مصدر بمعنى المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق، وقيل: إنها اسم لحال الشيء وليست مصدراً وإنما المصدر الهىء والتهيؤ فهي على الأول: جوهر وعلى الثاني: عرض، وفسروها بالكيفية الحاصلة من إحاطة الحد الواحد أو الحدود بالجسم، والمعنى أني أقدر لأجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي من الطين شيئاً مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئته والكاف إما اسم كما ذهب إليه أبو الحسن في موضع نصب على المفعولية لأخلق أو نعت لمفعول محذوف له، وإما حرف كما ذهب إليه الجمهور فتتعلق بمحذوف وقع نعتاً أيضاً لما وقع هو نعتاً له على تقدير الاسمية. وقرأ يزيد وحمزة كهية بتشديد الياء. وكان ابن المقسم يقول: بلغني أن خلفاً يقول: إن حمزة يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها. وقرأ أهل المدينة ويعقوب الطائر ومثله في المادة. {فَأَنفُخُ فِيهِ} الضمير للهيئة المقدرة في نظم الكلام لكن بمعنى الشيء المهيأ لا بمعنى العرض القائم به إذ لا يصح أن يكون ذلك محلاً للنفخ. وذكر الضمير هنا مراعاة للمعنى كما أنث في المائدة مراعاة للفظ قيل: وصح هذا لعدم الإلباس، ووقع في كلام غير واحد كون الضمير للكاف بناءاً على أنها اسم ويعود ذلك في الحقيقة إلى عود الضمير إلى الموصوف بها. واعترضه ابن هشام بأنه لو كان كما زعموا لسمع في الكلام مررت بكالأسد وبعضهم بأن عود الضمير إليها غير معهود. وقرىء فيها {عَلَيْهِمْ طَيْراً} حياً طياراً كسائر الطيور. وقرأ المفضل فتكون بتاء التأنيث، ويعقوب وأبو جعفر ونافع طائراً {بِإِذُنِ الله} متعلق بيكون أو بطيراً والمراد بأمر الله، وأشار بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى ولكن بسبب النفخ، وليس ذلك لخصوصية في عيسى عليه السلام وهي تكونه من نفخ جبريل عليه السلام، وهو روح محض كما قيل بل لو شاء الله تعالى الإحياء بنفخ أي شخص كان لكان من غير تخلف ولا استعصاء، قيل: وفي هذه المعجزة مناسبة لخلقه من غير أب، واختلف هل كان ذلك بطلب واقتراح أم لا؟ فذهب المعظم إلى الأول قالوا: إن بني إسرائيل طلبوا منه على سبيل التعنت جرياً على عادتهم مع أنبيائهم أن يخلق لهم خفاشاً فلما فعل قالوا: ساحر وإنما طلبوا هذا النوع دون غيره لأنه أكمل الطير خلقاً وأبلغ دلالة على القدرة لأن له ناباً وأسناناً ويحيض ويلد ويطير بغير ريش، وله آذان وثدي وضرع ويخرج منه اللبن، ويرى ضاحكاً كما يضحك الإنسان، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً، والمشهور أنه لم يخلق غير الخفاش، وأخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز عن خلق الله تعالى بلا واسطة، وقيل: خلق أنواعاً من الطير. وذهب بعضهم إلى الثاني فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحق أن عيسى عليه السلام جلس يوماً مع غلمان من الكتاب فأخذ طيناً، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائراً؟ قالوا: أو تستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال: كن طائراً بإذن الله تعالى فخرج يطير من بين كفيه، وخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم وأفشوه في الناس. {وَأُبْرِىء الاكمه} عطف على {أَخْلُقُ} فهو داخل في حيز {إِنّى} والأكمه هو الذي ولد أعمى أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره ولم يخلق له حدقة، قيل ولم يكن في صدر هذه الأمة أكمه بهذا المعنى غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب «التفسير»، وعن مجاهد أنه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وعن عكرمة أنه الأعمش أي: أخلص الأكمه من الكمه {والابرص} وهو الذي به الوضح المعروف وتخصيص هذين الأمرين لأنهما أمران معضلان أعجزا الأطباء وكانوا في غاية الحذاقة مع كثرتهم في زمنه، ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب كما أرى قوم موسى عليه السلام المعجزة بالعصا واليد البيضاء حيث كان الغالب عليهم السحر، والعرب المعجزة بالقرآن حيث كان الغالب عليهم عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغة، والاقتصار على هذين الأمرين لا يدل على نفي ما عداهما فقد روي أنه عليه السلام أبرأ أيضاً غيرهما، وروي عن وهب أنه ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفاً من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه السلام فمشى إليه، وكان يداويهم بالدعاء إلى الله تعالى بشرط الإيمان وكان دعاؤه الذي يدعو للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم «اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيء قدير» ومن خواص هذا الدعاء كما قال وهب أنه إذا قرىء على الفزع والمجنون وكتب له وسقى منه نفع إن شاء الله تعالى. {وَأُحْىِ الموتى بِإِذْنِ الله} عطف على خبر {إِنّى} وقيد الإحياء بالاذن كما فعل في الأول لأنه خارق عظيم يكاد يتوهم منه ألوهية فاعله لأنه ليس من جنس أفعال البشر وكان إحياؤه بالدعاء وكان دعاؤه يا حي يا قيوم وخبر «إنه كان إذا أراد أن يحيى الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى: تبارك الذين بيده الملك، وفي الثانية: تنزيل السجدة فإذا فرغ مدح الله تعالى وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد» قال البيهقي: ليس بالقوي، وقيل: إنه كان إذا أراد أن يحيى ميتاً ضرب بعصاه الميت، أو القبر، أو الجمجمة فيحيا بإذن الله تعالى ويكلمه ويموت سريعاً. وأخرج محيي السنة عن ابن عباس أنه قال: قد أحيا عليه السلام أربعة أنفس، عازر، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح، فأما عازر فكان صديقاً له فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك عازر مات وكان بينه وبين عازر مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله تعالى عيسى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره، وبقي زماناً وولد له. وأما ابن العجوز فمر به ميتاً على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله تعالى عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي زماناً وولد له، وأما ابنة العاشر فكان أبوها رجلاً يأخذ العشور ماتت له بنت الأمس فدعا الله تعالى وأحياها وبقيت زماناً وولدها. وأما سام بن نوح فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعى باسم الله تعالى الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفاً من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: أقد قامت الساعة؟ قال: لا ولكن دعوتك باسم الله تعالى الأعظم ثم قال له: مت قال: بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى له ففعل، وفي بعض الآثار أن إحياءه ساماً كان بعد قولهم له عليه السلام إنك تحيى من كان قريب العهد من الموت ولعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح فأحياه وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة فقال للقوم: صدقوه فإني نبي فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا: هذا سحر فأرنا آية فنبأهم بما يأكلون وما يدخرون، وقد ورد أيضاً أنه عليه السلام أحيا ابن ملك ليستخلفه في قصة طويلة، وأحيا خشفاً وشاة وبقرة؛ ولفظ {الموتى} يعم كل ذلك. {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ} (ما) في الموضعين موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف أي تأكلونه وتدخرونه والظرف متعلق بما عنده وليس من باب التنازع، والادخار الخبء وأصل تدخرون تذتخرون بذال معجمة فتاء فأبدلت التاء ذالاً ثم أبدلت الذال دالاً وأدغمت، ومن العرب من يقلب التاء دالاً ويدغم، وقد كان هذا الإخبار بعد النبوة وإحيائه الموتى عليه السلام على ما في بعض الإخبار، وقيل: قبل، فقد أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كان عيسى عليه السلام وهو غلام يلعب مع الصبيان يقول لأحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول: نعم فيقول: خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي فتقول: وأي شيء خبأت لك؟ فيقول: كذا وكذا فتقول: من أخبرك؟ا فيقول: عيسى ابن مريم فقالوا: والله لأن تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوه عليهم فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاهم في بيت فسأل عنهم فقال: ما هؤلاء أكان هؤلاء الصبيان؟ قالوا: لا إنما هي قردة وخنازير قال: اللهم اجعلهم قردة وخنازير فكانوا كذلك، وذهب بعضهم أن ذلك كان بعد نزول المائدة وأيد بما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الآية أنه قال: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ} من المائدة {وَمَا تَدَّخِرُونَ} منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فادخروا وخانوا فعلوا قردة وخنازير، ويمكن أن يقال: إن كل ذلك قد وقع وعلى سائر التقادير فالمراد الاخبار بخصوصية هذين الأمرين كما يشعر به الظاهر، وقيل: المراد الإخبار بالمغيبات إلا أنه قد اقتصر على ذكر أمرين منها ولعل وجه تخصيص الإخبار بأحوالهم لتيقنهم بها فلا يبقى لهم شبهة، والسر في ذكر هذين الأمرين بخصوصهما أن غالب سعي الإنسان وصرف ذهنه لتحصيل الأكل الذي به قوامه والادخار الذي يطمئن به أكثر القلوب ويسكن منه غالب النفوس فليفهم. وقرىء تذخرون بالذال المعجمة. {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي المذكور من الخوارق الأربعة العظيمة، وهذا من كلام عيسى عليه السلام حكاه الله تعالى عنه، وقيل: هو من كلام الله تعالى سيق للتوبيخ {لآيَةً} أي جنسها، وقرىء لآيات {لَكُمْ} دالة على صحة الرسالة دلالة واضحة حيث لم يكن ذلك بتخلل آلات وتوسط أسباب عادية كما يفعله الأطباء والمنجمون. ومن هنا يعلم أن علم الجفر وعلم الفلك ونحوهما لما كانت مقرونة بأصول وضوابط لا يقال عنها: إنها علم غيب أبداً إذ علم الغيب شرطه أن يكون مجرداً عن المواد والوسائط الكونية وهذه العلوم ليست كذلك لأنها مرتبة على قواعد معلومة عند أهلها لولاها ما علمت تلك العلوم، وليس ذلك كالعلم بالوحي لأنه غير مكتسب بل الله تعالى يختص به من يشاء وكذا العلم بالإلهام فإنه لا مادة له إلا الموهبة الإلهية والمنحة الأزلية، على أن بعضهم ذهب إلى أن تلك العلوم لا يحصل بها العلم المقابل للظن بل نهاية ما يحصل الظن الغالب وبينه وبين علم الغيب بون بعيد، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فيه مجاز المشارفة أي إن كنتم موفقين للإيمان، ويحتمل أن يكون المعنى إن كنتم مصدقين، وجواب الشرط على التقديرين محذوف أي انتفعتم بذلك.
{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)} {وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} عطف إما على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى: {بِئَايَةٍ} [آل عمران: 49] أي قد جئتكم محتجاً، أو متلبساً بآية الخ ومصدقاً لما الخ، وإما على {رَسُولاً} [آل عمران: 49] وفيه معنى النطق مثله، وجوز أن يكون منصوباً بفعل دل عليه {قَدْ جِئْتُكُم} [آل عمران: 49] أي وجئتكم مصدقاً الخ. وقوله سبحانه: {مِنَ التوراة} في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في الظرف والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف نفسه لقيامه مقام الفعل، ويجوز أن يكون حالاً من (ما) فيكون العامل فيه {مُصَدّقاً} ومعنى تصديقه عليه السلام للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب، وقيل: إن تصديقه لها مجيئه رسولاً طبق ما بشرت به {وَلاِحِلَّ لَكُم} معمول لمقدر بعد الواو أي وجئتكم لأحل فهو من عطف الجملة على الجملة، أو معطوف على {بِئَايَةٍ} من قوله سبحانه: {جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} [آل عمران: 49] لأنه في معنى لأظهر لكم آية ولأحل فلا يرد أنه لا يصح عطف المفعول له على المفعول به، أو معطوف على {مُصَدّقاً} ويلتزم التأويل بما يجعلهما من باب واحد، وإن كان الأول: حالاً، والثاني: مفعولاً له فكأنه قيل: جئتكم لأصدق ولأحل، وقيل: لا بد من تقدير جئتكم فيها كلها إذ لا يعطف نوع من المعمولات على نوع آخر. {بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} أي في شريعة موسى عليه السلام. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام وكان قد حرم عليهما فيما جاء به موسى عليه السلام لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صيصية له، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاء عيسى بالتخفيف منه في «الإنجيل». وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله، وهذا يدل على أن «الإنجيل» مشتمل على أحكام تغاير ما في «التوراة» وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى، ولا يخل ذلك بكونه مصدقاً للتوراة فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول لا رفع وإبطال كما تقرر، وهذا مثل نسخ القرآن بعضه ببعض، وذهب بعضهم إلى أن «الإنجيل» لم يخص أحكاماً ولا حوى حلالاً وحراماً ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وزواجر، وما سوى ذلك من الشرائع والأحكام فمحالة على «التوراة»، وإلى أن عيسى عليه السلام لم ينسخ شيئاً مما في «التوراة»، وكان يسبت ويصلي نحو البيت المقدس، ويحرم لحم الخنزير، ويقول بالختان إلا أن النصارى غيروا ذلك بعد رفعه فاتخذوا يوم الأحد بدل يوم السبت لما أنه أول يوم الأسبوع ومبدأ الفيض، وصلوا نحو المشرق لما تقدم، وحملوا الختان على ختان القلب وقطعه عن العلائق الدنيوية والعوائق عن الحضرة الإلهية وأحلوا لحم الخنزير مع أن مرقس حكى في «إنجيله» أن المسيح أتلف الخنزير وغرق منه في البحر قطيعاً كبيراً وقال لتلامذته: لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير فقرنها بالكلاب، وسبب ذلك زعمهم أن بطرس رأى في النوم صحيفة نزلت من السماء، وفيها صور الحيوانات وصورة الخنزير وقيل له: يا بطرس كل منها ما أحببت ونسب هذا القول إلى وهب بن منبه، والذاهبون إليه أولوا الآية بأن المراد ما حرمه علماؤهم تشهياً أو خطأ في الاجتهاد، واستدلوا على ذلك بأن المسيح عليه السلام قال في «الإنجيل»: ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها، ولا يخفى أن تأويل الآية بما أولوه به بعيد في نفسه، ويزيده بعداً أنه قرىء حرم بالبناء للفاعل وهو ضمير ما {بَيْنَ يَدَىِ} أو الله تعالى، وقرىء أيضاً حرم بوزن كرم، وأن ما ذكروه من كلام المسيح عليه السلام لا ينافي النسخ لما علمت أنه ليس بإبطال وإنما هو بيان لانتهاء الحكم الأول، ومعنى التكميل ضم السياسة الباطنة التي جاء بها إلى السياسة الظاهرة التي جاء بها موسى عليه السلام على ما قيل أو نسخ بعض أحكام التوراة بأحكام هي أوفق بالحكمة وأولى بالمصلحة وأنسب بالزمان، وعلى هذا يكون قول المسيح حجة للأولين لا عليهم، ولعل ما ذهبوا إليه هو المعول عليه كما لا يخفى على ذوي العرفان {وَجِئْتُكُمْ بِئَايَةٍ مّن رَبُّكُمْ} الكلام فيه كالكلام في نظيره، وقرىء بآيات {فاتقوا الله} في عدم قبول ما جئتكم به {وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به وأنهاكم بأمر الله تعالى.
{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)} {إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٍ} بيان للآية المأتي بها على معنى: هي قولي: إن الله ربي وربكم. ولما كان هذا القول مما أجمع الرسل على حقيته ودعوا الناس إليه كان آية دالة على رسالته، وليس المراد بالآية على هذا المعجزة ليرد أن مثل هذا القول قد يصدر عن بعض العوام بل المراد أنه بعد ثبوت النبوة بالمعجزة كان هذا القول لكونه طريقة الأنبياء عليهم السلام علامة لنبوته تطمئن به النفوس، وجوز أن يراد من الآية المعجزة على طرز ما مر، ويقال: إن حصول المعرفة والتوحيد والاهتداء للطريق المستقيم في الاعتقادات والعبادات عمن نشأ بين قوم غيروا دينهم وحرفوا كتب الله تعالى المنزلة وقتلوا أنبياءهم ولم يكن ممن تعلم من بقايا أخبارهم من أعظم المعجزات وخوارق العادات. أو يقال من الجائز أن يكون قد ذكر الله تعالى في التوراة إذا جاءكم شخص من نعته كذا وكذا يدعوكم إلى كيت وكيت فاتبعوه فإنه نبي مبعوث إليكم فإذا قال: أنا الذي ذكرت بكذا وكذا من النعوت كان من أعظم الخوارق، وقرىء أن الله بفتح همزة أن على أن المنسبك بدل من (آية) أو أن المعنى: جئتكم بآية دالة على أن الله الخ، ومثل هذا محتمل على قراءة الكسر أيضاً لكن بتقدير القول، وعلى كلا التقديرين يكون قوله تعالى: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50] اعتراضاً، وقد ذكر غير واحد أن الظاهر أن هذه الجملة معطوفة عل جملة {جِئْتُكُم} [آل عمران: 49] الأولى وكررت ليتعلق بها معنى زائد وهو قوله سبحانه: {إِنَّ الله رَبّى} أو للاستيعاب كقوله تعالى: {ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أي: جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالمخفيات، ومن ولادتي بغير أب، ومن كلامي في المهد ونحو ذلك والكلام الأول: لتمهيد الحجة عليهم، والثاني: لتقريبها إلى الحكم وهو إيجاب حكم تقوى الله تعالى وطاعته ولذلك جيء بالفاء في {فاتقوا الله} [آل عمران: 50] كأنه قيل: لما جئتكم بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات فاتقوا الله الخ، وعلى هذا يكون قوله تعالى: {إِنَّ الله} الخ ابتداء كلام وشروعاً في الدعوة المشار إليها بقول مجمل، فإن الجملة الاسمية المؤكدة بأن للإشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد، وقوله تعالى: {فاعبدوه} إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه ملازمة الطاعة التي هي الاتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، وتعقيب هذين الأمرين بقوله سبحانه: {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} تقرير لما سبق ببيان أن الجمع بين الأمرين الاعتقاد الحق، والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر لأن الله ربي وربكم فاعبدوه قوله تعالى: {لإيلاف قُرَيْشٍ} [قريش: 1] الخ، والإشارة إما إلى مجموع الأمرين، أو إلى الأمر الثاني المعلول للأمر الأول، والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض؛ وجملة {هذا} الخ على ما قيل: استئناف لبيان المتقضي للدعوة. هذا والإشارة في هذه الآيات ظاهرة كالعبارة: سوى أن تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس يحتاج إلى بيان فنقول: قال الله سبحانه: {وَإِذْ قَالَتِ الملئكة} أي ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الطاهرة الزكية {إِنَّ الله اصطفاك} لكمال استعدادك ووفور قابليتك {وَطَهَّرَكِ} عن الرذائل والأخلاق الردية {واصطفاك على نِسَاء} [آل عمران: 42] النفوس الشهوانية المتدرعة بجلباب الأفعال الذميمة {العالمين يامريم اقنتى لِرَبّكِ} أي داومي على الطاعة له بالائتمار بما أمر والانزجار عما نهى {واسجدى} في مساجد الذل {واركعى} [آل عمران: 43] في محاريب الخدوع مع الخاضعين فإن في ذلك إقامة مراسم العبودية وأداء حقوق الربوبية، ولله تعالى در من قال: ويحسن إظهار التجلد للعدا *** ويقبح إلا العجز عند الحبائب {ذلك مِنْ أَنبَاء الغيب} أي من أخبار غيب وجودك {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} يا نبي الروح {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي لدى القوى الروحانية والنفسانية، والمراد ما كنت ملتفتاً إليهم بل كنت في شغل شاغل عنهم {إِذْ يُلْقُون} أقلام استعداداتهم التي يكتبون بها صحف أحوالهم وتوراة أطوارهم ويطرحونها في بحر التدبير {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ} ويدبر {مَرْيَمَ} النفس بحسب رأيه ومقتضى طبعه {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] في مقام الصدر الذي هو محل اختصام القوى في طلب الرياسة قبل الرياضة وفي حالها {إِذْ قَالَتِ} ملائكة القوى الروحانية حين غلبت {الملئكة يامريم إِنَّ الله يُبَشّرُكِ} بمقتضى التوجيه إليه {بِكَلِمَةٍ مّنْهُ} جامعة لحروف الأكوان وهو القلب المحيط بالعوالم {اسمه المسيح} لأنه يمسحك بالنور، أو لأنه مسح به {وَجِيهًا فِي الدنيا} لتدبيره أمر المعاش فيطيعه أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة، ووجيهاً في الآخرة لقيامه بتدبير المعاد فيطيعه ملكوت سماء الأرواح، أو شريفاً مرفوعاً في الدنيا وهي عبارة عن تجلي الأفعال، وفي الآخرة وهي عبارة عن تجلي الأسماء {وَمِنَ المقربين} [آل عمران: 45] أي المعدودين من جملة مقربي الحضرة القابلين لتجلي الذات، وفي الخبر «ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» {وَيُكَلّمُ الناس} بما يرشدهم في مهد البدن وقت تغذيه بلبان السلوك إلى ملك الملوك {وَكَهْلاً} [آل عمران: 46] بالغاً طور شيخ الروح وواصلاً وسط الطريق {قَالَتْ رَبّ أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ} مثل هذا {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} وهو تعجب من ولادتها ذلك من غير تربية معلم بشري لما أن العادة جرت بأن الوصول إلى المقامات العلية إنما هو بواسطة شيخ مرشد يعرف الطريق ويدفع الآفات، وقد شاع أن الإنسان متى سلك بنفسه ضل أو لم يفز بكثير، ومن كلامهم الشجرة التي تنبت بنفسها لا تثمر {قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء} [آل عمران: 47] فله أن يصطفي من شاء من غير تربية مرب ولا إرشاد مرشد بل بمجرد الجذبة الإلهية، وهذا أن المرادين وبعض المريدين: رب شخص تقوده الأقدار *** للمعالي وما لذاك اختيار غافل والسعادة احتضنته *** وهو عنها مستوحش نفار {وَيُعَلّمُهُ} [آل عمران: 48] بالتعليم الإلهي الغني عما يعهد من الوسائط كتاب العلوم المعقولة وحكم الشرائع ومعارف الكتب الإلهية من توراة الظاهر وإنجيل الباطن؛ {و} يجعله {نَبْعَثَ رَسُولاً} {إلى} الروحانيين من {بَنِى إسراءيل} الروح قائلاً: {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} من عالم الغيب {بِئَايَةٍ} عظيمة وهي {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ} بالتربية من طين النفوس البشرية {كَهَيْئَةِ} الطائر إلى جناب القدس بجناحي الرجاء والخوف {فَأَنفُخُ فِيهِ} بنفث العلم الإلهي ونفس الحياة الحقيقية {فَيَكُونُ طَيْرًا} أي نفساً حية طائرة في فضاء الجمال والجلال إلى رياض جناب الحق سبحانه {بِإِذْنِ الله وَأُبْرِىء الاكمه} أي الأعمى المحجوب برؤية الأغيار عن رؤية نور الأنوار {والابرص} المبتلى بأمراض الرذائل والعقائد الفاسدة التي أوجبت مخالفة لون بشرته الفطرية {وَأُحْىِ} موتى الجهل بحياة العلم الحقيقية {بِإِذْنِ الله وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ} أي تتناولون من الشهوات واللذات {وَمَا تَدَّخِرُونَ} في بيوت نياتكم من الآمال التي هي كسراب بقيعة {إِنَّ فِى ذَلِكَ} المذكور {لأَيَةً لَّكُمْ} نافعة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49]، {وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ} توراة الظاهر فإنه أحد المظاهر {وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} بسبب عنادكم وقصركم الحق على بعض مظاهره، وأشير بذلك إلى علم الباطن، والمراد من البعض إما الكل على حد ما قيل في قوله تعالى: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] وإما ظاهر معناه فيكون إشارة إلى أن من الباطن ما يحرم كشفه، فقد قال مولانا زين العابدين: ورب جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا ولا استحل أناس مسلمون دمي *** يرون أقبح ما يأتونه حسنا وقد تقدم في هذا أبو حسن *** إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا {وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ} بعد أخرى {مّن رَّبّكُمْ فاتقوا الله} في مخالفتي {وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50] فيما فيه كمال نشأتكم {إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ} فهو الذي يوصلكم إلى ما فيه كمالكم {فاعبدوه} بالذل والانكسار والوقوف على بابه بالعجز والافتقار وامتثلوا أمره ونهيه {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51] يوصلكم إليه ويفدُ كم عليه.
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)} {فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} شروع في بيان مآل أحواله عليه السلام، وقيل: يحتمل أن يكون كله من قبل الملائكة شرحاً لطرف منها داخلاً تحت القول، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله تعالى: {وَرَسُولاً إلى بَنِى إسراءيل} [آل عمران: 49] ولا يكون {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} [آل عمران: 49] متعلقاً بما قبله، ولا يكون داخلاً تحت القول ويكون المحذوف هناك فجاء عيسى كما بشر الله تعالى رسولاً إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم الآية، والفاء هنا مفصحة بمثل القدر هناك على التقدير الثاني، وأصل الإحساس الإدراك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وقد استعير هنا استعارة تبعية للعلم بلا شبهة، وقيل: إنه مجاز مرسل عن ذلك من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم والداعي لذلك أن الكفر مما لا يحس، والقول بأن المراد إحساس آثار الكفر ليس بشيء، والمراد من الكفر إصرارهم عليه وعتوهم فيه مع العزيمة على إيقاع مكروه به عليه السلام، وقد صح أنه عليه السلام لقي من اليهود قاتلهم الله تعالى شدائد كثيرة. أخرج إسحق بن بشر وابن عساكر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان اليهود يجتمعون على عيسى عليه السلام ويستهزءون به ويقولون له: يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد؟ا فيخبرهم ويسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فسألها فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر. ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا يا روح الله سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون عليَّ كرب الموت فدعا ربه فقبضها إليه فاستوت عليها الأرض فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضباً» وروي عن مجاهد أنهم أرادوا قتله ولذلك استنصر قومه، ومن لابتداء الغاية متعلق بأحس أي ابتدأ الإحساس من جهتهم؛ وجوز أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أي لما أحس الكفر حال كونه صادراً منهم. {قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله} المقول لهم الحواريون كما يشير إليه آية الصف (14) {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ} الآية. وكونه جميع بني إسرائيل لقوله تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله كَمَا} [الصف: 14] ليس بشيء إذ الآية ليست بنص في المدعى إذ يكفي في تحقق الانقسام بلوغ الدعوة إلى الجميع، والأنصار جمع نصير كالأشراف جمع شريف، وقال قوم: هو جمع نصر، وضعفه أبو البقاء إلا أن يقدر فيه مضاف أي من صاحب نصري، أو تجعله مصدراً وصف به، والجار والمجرور إما أن يتعلق بمحذوف وقع حالاً من الياء وهي مفعول به معنى، والمعنى من ينصرني حال كوني ملتجئاً إلى الله تعالى أو ذاهباً إلى الله، وإما أن يتعلق بأنصاري مضمناً معنى الإضافة أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري، وفي «الكشاف» في تفسير سورة الصف ما حاصله مما يخالف ما ذكره هنا أن إضافة أنصار للياء إضافة ملابسة أي من حزبي ومشاركي في توجهي لنصرة الله تعالى ليطابق جوابهم الآتي ولا يصح أن يكون معناه من ينصرني مع الله لعدم المطابقة، وفيه أن عدم المطابقة غير مسلم إذ نصرة الله تعالى في الجواب ليست على ظاهرها بل لا بد من تجوز، أو إضمار في نصرهم لله تعالى، ويضمر ما تحصل به المطابقة، نعم كون {إلى} بمعنى مع لا يخلو عن شيء فقد ذكر الفراء أنها إنما تكون كذلك إذا ضم شيء إلى آخر نحو الذود إلى الذود إبل أي إذا ضممته إليه صار إبلاً، ألا تراك تقول قدم زيد ومعه مال، ولا تقول: وإليه وكذا نظائره فالسالم عن هذا الحمل من التفاسير مع اشتماله على قلة الاضمار أولى، و{مِنْ} هنا اختار بعضهم كون إلى بمعنى اللام، وآخرون كونها بمعنى في. وقال في «الكشف»: لعل الأشبه في معنى الآية والله تعالى أعلم أن يحمل على معنى من ينصرني منهياً نصره إلى الله تعالى كما يقتضيه حرف الانتهاء دون تضمين كأنه عليه السلام طلب منهم أن ينصروه لله تعالى لا لغرض آخر مدمجاً أن نصرة الله تعالى في نصرة رسوله، وجوابهم المحكي عنهم بقوله سبحانه: {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} شديد الطباق له كأنهم قالوا: نحن ناصروك لأنه نصر الله تعالى للغرض الذي رمز إليه، ولو قالوا مكانه: نحن أنصارك لما وقع هذا الموقع انتهى. وأنت تعلم أن جعل {إلى} بمعنى اللام، أو في التعليليتين يحصل طلبة المسيح التي أشير إليها على وجه لعله أقل تكلفاً مما ذكر، وكأن اختيار ذلك لما قاله الزجاج من أنه لا يجوز أن يقال: إن بعض الحروف من حروف المعاني بمعنى الآخر لكن الحرفين قد يتقاربان في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد وليس بذلك فليفهم، والحواريون جمع حواري يقال: فلان حواري فلان أي خاصته من أصحابه وناصره، وليس الحواري جمعاً ككراسي على ما وهم بل هو مفرد منصرف كما صرح به المحققون، وذكر العلامة التفتازاني أنه مفرد وألفه من تغييرات النسب؛ وفيه أن الألف إذا زيدت في النسبة وغيرت بها تخفف الياء في الأفصح في أمثاله، والحواري بخلافه لأن تخفيف يائه شاذ كما صرحوا به، وبه قرىء في الآية، وأصله من التحوير أي التبييض، ومنه الخبز الحواري الذي نخل مرة بعد أخرى؛ والحواريات للحضريات نساء المدن والقرى لما أنه يغلب فيهن البياض لعدم البروز للشمس، ويطلق الحواري على القصار أيضاً لأنه يبيض الثياب وهو بلغة النبط، هواري بضم الهاء وتشديد الواو وفتح الراء قاله الضحاك واختلف في سبب تسمية أولئك القوم بذلك فقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم وهو المروي عن سعيد بن جبير وقيل: لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب للناس وهو المروي عن مقاتل وجماعة وقيل: لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم وإليه يشير كلام قتادة وفي تعيين أنهم من أي الطوائف من الناس خلاف أيضاً فقيل: قوم كانوا يصطادون السمك فيهم يعقوب، وشمعون، ويوحنا فمر بهم عيسى عليه السلام فقال لهم: أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية؟ فقالوا له من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئاً فأمر عيسى عليه السلام بإلقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاصطاد ما ملأ سفينتين فعند ذلك آمنوا به عليه السلام، وقيل: هم اثنا عشر رجلاً، أو تسعة وعشرون من سائر الناس اتبعوا عيسى عليه السلام وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا: من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا أسقيتنا وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ويأكلون، وقيل: إن واحداً من الملوك صنع طعاماً وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه السلام على قصعة فكانت القصعة لا تنقص فذكر ذلك للملك فذهب إليه الملك مع أقاربه فقالوا له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم فقال الملك: إني تارك ملكي ومتبعك فتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون، وقيل: إن أمه دفعته إلى صباغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً وجده أعلم به منه فغاب الصباغ يوماً لمهم وقال له: ههنا ثياب مختلفة وقد جعلت على كل منها علامة فاصبغها بتلك الألوان فطبخ عيسى عليه السلام حباً واحداً وجعل الجميع فيه، وقال: كوني بإذن الله كما أريد فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: أفسدت على الثياب قال: قم فانظر فكان يخرج ثوباً أحمر وثوباً أخضر وثوباً أصفر كما كان يريد فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به وكانوا الحواريين، ونقل جمع عن القفال أنه يجوز أن يكون بعضهم من الملوك، وبعضهم من الصيادين، وبعضهم من القصارين، وبعضهم من الصباغين، وبعضهم من سائر الناس وسموا جميعاً بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام والمخلصين في محبته وطاعته. والاشتقاق كيف كانوا هو الاشتقاق، ومأخذه إما أن يؤخذ حقيقياً وإما أن يؤخذ مجازياً وهو الأوفق بشأن أولئك الأنصار، وقيل: إنه مأخوذ من حار بمعنى رجع ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الإنشقاق: 14] وكأنهم سموا بذلك لرجوعهم إلى الله تعالى. ومن الناس من فسر الحواري بالمجاهد فإن أريد بالجهاد ما هو المتبادر منه أشكل ذلك حيث إنه لم يصح أن عيسى عليه السلام أمر به؛ وادعاه بعضهم مستدلاً بقوله تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أنصارى} [الصف: 14] ولا يخفى أن الآية ليست نصاً في المقصود لجواز أن يراد بالتأييد التأييد بالحجة وإعلاء الكلمة، وإن أريد بالجهاد جهاد النفس بتجريعها مرائر التكاليف لم يشكل ذلك. نعم استشكل أن عيسى عليه السلام إذا لم يكن مأموراً بالقتال فما معنى طلبه الأنصار؟ وأجيب بأنه عليه السلام لما علم أن اليهود يريدون قتله استنصر للحماية منهم كما قاله الحسن ومجاهد ولم يستنصر للقتال معهم على الإيمان بما جاء به، وهذا هو الذي لم يؤمر به لا ذلك بل ربما يدعى أن ذلك مأمور به لوجوب المحافظة على حفظ النفس، وقد روي أن اليهود لما طلبوه ليقتلوه قال للحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى فيه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم، وفي بعض الأناجيل أن اليهود لما أخذوا عيسى عليه السلام سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بإذنه فقال له عيسى عليه السلام: حسبك ثم أدنى أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت، وقيل: يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة ولتمييز الموافق من المخالف وذلك لا يستدعي الأمر بالجهاد كما أمر نبينا روح جسد الوجود صلى الله عليه وسلم وهو الظاهر لمن أنصف، والمراد من أنصار الله أنصار دينه ورسوله وأعوانهما على ما هو المشهور. {ءامَنَّا بالله} مستند لتلك الدعوى جارية مجرى العلة لها {واشهد} عطف على {مِنَ} ولا يضر اختلافهما إنشائية وإخبارية لما تحقق في محله، وقيل: إن {مِنَ} لإنشاء الإيمان أيضاً فلا اختلاف {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي منقادون لما تريده منا ويدخل فيه دخولاً أولياً نصرتهم له، أو بأن ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فهو إقرار معنى بنبوة من قبله عليه السلام وهذا طلب منهم شهادته عليه السلام لهم يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم إيذاناً كما قال الكرخي بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية وجاء في المائدة (111) {بِأَنَّنَا} لأن ما فيها كما قيل أول كلام الحواريين فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى فناسب فيه التخفيف لأن كلاً من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى.
{رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} {رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ} عرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على رسوله استمطاراً لسحائب إجابة دعائهم الآتي، وقيل: مبالغة في إظهار أمرهم {واتبعنا الرسول} أي امتثلنا ما أتى به منك إلينا {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد لهم بالصدق رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروى أبو صالح عنه أنهم من آمن من الأمم قبلهم، وقيل: المراد من {الشاهدين} الأنبياء لأن كل نبي شاهد لأمته وعليها، وقال مقاتل: هم الصادقون، وقال الزجاج: هم الشاهدون للأنبياء بالتصديق، وقيل: أرادوا مع المستغرقين في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من نصرة رسولك، وقيل: أرادوا اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله تعالى: {إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلّيّينَ} [المطففين: 81] ولا يخفى ما في هذا الأخير من التكلف والمعنى على ما عداه أدخلنا في عداد أولئك، أو في عداد أتباعهم، قيل: وعبروا عن فعل الله تعالى ذلك بهم بلفظ {فاكتبنا} إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال، وقيل: المراد اجعل ذلك وقدره في صحائف الأزل. ومن الناس من جعل الكتابة كناية عن تثبيتهم على الإيمان في الخاتمة، والظرف متعلق بمحذوف وقع حالاً من مفعول اكتبنا.
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} {وَمَكَرُواْ} أي الذين أحس منهم الكفر إذ وكلوا به من يقتله غيلة {وَمَكَرَ الله} بأن ألقى شبهه عليه السلام على غيره فصلب ورفعه إليه، قال ابن عباس: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام دخل خوخة وفيها كوة فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل منهم خبيث: أدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى، وقال وهب: أسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض فأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلاً يقال له يهودا وهو الذي دلهم على عيسى وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم وقال: ما تجعلون لي إن دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فأدخل البيت ورفع وقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى فلما صلب شبه عيسى وأتى على ذلك سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى: اهبط على مريم ثم لتجمع لك الحواريين وبثهم في الأرض دعاة فهبط عليها واشتعل الجبل نوراً فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله سبحانه، وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون قصد كل منهم بلدة من أرسله عيسى إليهم. وروي عن غير واحد أن اليهود لما عزموا على قتله عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال واحد منهم: أنا يا نبي الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه السلام فكساه الله النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ورفعه إليه، ثم إن أصحابه لما رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة: كان الله تعالى فينا فصعد إلى السماء، وقالت فرقة أخرى: كان فينا ابن الله عز وجل ثم رفعه الله سبحانه إليه، وقالت فرقة أخرى منهم: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء هم المسلمون، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام مندرس الآثار إلى أن بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته واسمه داود بن نوذا فقيل له: إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله تعالى وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فعل وفعل فقال: لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بني إسرائيل فقتل منهم خلقاً عظيماً، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له طيطوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه السلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في بيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز. هذا وأصل المكر قيل: الشر، ومنه: مكر الليل إذا أظلم، وقيل: الالتفات ومنه المكوّر لضرب من الشجر ذي التفات، واحده مكر، والممكورة من النساء للملتفة الخلق مطويته وفسره البعض بصرف الغير عما يقصده بحيلة، وآخرون باختداع الشخص لإيقاعه في الضرر، وفرقوا بينه وبين الحيلة بأنها قد تكون لإظهار ما يعسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار، والمكر حيلة على الشخص توقعه في مثل الوهق، وقالوا: لا يطلق على الله تعالى إلا بطريق المشاكلة لأنه منزه عن معناه وغير محتاج إلى حيلة فلا يقال ابتداءاً مكر الله سبحانه وإلى ذلك ذهب العضد وجماعة وخالفهم الأبهري وغيره؛ فجوزوا الإطلاق بلا مشاكلة مستدلين بقوله تعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله} [الأعراف: 99] فإنه نسب إليه سبحانه ابتداءاً. ونقل عن الإمام أن المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفى فيه، وأنه يجوز صدوره عنه تعالى حقيقة، وقال غير واحد: إنه عبارة عن التدبير المحكم وهو ليس بممتنع عليه تعالى، وفي الحديث: «اللهم امكر لي ولا تمكر بي» ومن ذهب إلى عدم الإطلاق إلا بطريق المشاكلة أجاب عن الاستدلال بالآية ونحوها بأن ذلك من المشاكلة التقديرية كما في قوله تعالى: {صِبْغَةَ الله} [البقرة: 138] ولا يخفى ما فيه، فالأولى: القول بصحة الإطلاق عليه سبحانه ابتداءاً بالمعنى اللائق بجلاله جل جلاله، ومما يؤيد ذلك قوله سبحانه: {والله خَيْرُ الماكرين} أي أقواهم مكراً وأشدهم، أو أن مكره أحسن وأوقع في محله لبعده عن الظلم فإنه يبعد المشاكلة.
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)} {إِذْ قَالَ الله} ظرف لمكر أو لمحذوف نحو وقع ذلك ولو قدر أذكر كما في أمثاله لم يبعد وتعلقه بالماكرين بعيد إذ لا يظهر وجه حسن لتقييد قوة مكره تعالى بهذا الوقت {ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: هذا من المقدم والمؤخر أي: رافعك إليّ ومتوفيك، وهذا أحد تأويلات اقتضاها مخالفة ظاهر الآية للمشهور المصرح به في الآية الأخرى، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» وثانيها: أن المراد إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك. وثالثها: أن المراد قابضك ومستوفي شخصك من الأرض من توفى المال بمعنى استوفاه وقبضه. ورابعها: أن المراد بالوفاة هنا النوم لأنهما أخوان ويطلق كل منهما على الآخر، وقد روي عن الربيع أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وهو نائم رفقاً به، وحكي هذا القول والذي قبله أيضاً عن الحسن. وخامسها: أن المراد أجعلك كالمتوفى لأنه بالرفع يشبهه، وسادسها: أن المراد آخذك وافياً بروحك وبدنك فيكون {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} كالمفسر لما قبله، وسابعها: أن المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن إيصاله بالملكوت، وثامنها: أن المراد مستقبل عملك، ولا يخلو أكثر هذه الأوجه عن بعد لا سيما الأخير، وقيل: الآية محمولة على ظاهرها، فقد أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال: توفى الله تعالى عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه. وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفى عيسى سبع ساعات ثم أحياه، وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين، وورد ذلك في رواية ضعيفة عن ابن عباس والصحيح كما قاله القرطبي أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم وهو اختيار الطبري والرواية الصحيحة عن ابن عباس، وحكاية أن الله تعالى توفاه سبع ساعات ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى. ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود، ويزعمون أنه في الإنجيل وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم، ولا بأس بنقله ورده فإن في ذلك ردّ عواهم فيه عليه السلام الربوبية على أتم وجه، فنقول: قالوا: بينما المسيح مع تلاميذه جالس ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهودا الأسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وقد قال لهم يهودا: الرجل الذي أقبل هو هو فأمسكوه فلما رأى يهودا المسيح قال: السلام عليك يا معلم ثم أمسكوه فقال يسوع: مثل ما يفعل باللصوص خرجتم لي بالسيوف والعصي وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أعلم فلم تتعرضوا لي لكن هذه ساعة سلطان الظلمة فذهبوا به إلى رئيس الكهنة حيث تجتمع الشيوخ وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلاً وجلس ناحية منها متنكراً ليرى ما يؤول أمره إليه فالتمس المشايخ على يسوع شهادة يقتلونه بها فجاء جماعة من شهود الزور فشهد منهم اثنان أن يسوع قال: أنا أقدر أن أنقض هيكل الله تعالى وأبنيه في ثلاثة أيام فقال له الرئيس: ما تجيب عن نفسك بشيء؟ فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي أنت المسيح؟ فقال أنت قلت ذاك وأنا أقول لكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى تروه جالساً عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء وأن ناساً من القيام ههنا لا يذوقون الموت حتى يرون ابن الإنسان آتياً في ملكوته فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شق ثيابه وقال: ما حاجتنا إلى شهادة يهودا قد سمعتم ماذا ترون في أمره؟ فقالوا: هذا مستوجب الموت فحينئذٍ بصقوا في وجه البعيد ولطموه وضربوه وهزأوا به وجعلوا يلطمونه ويقولون: بين لنا من لطمك ولما كان من الغد أسلموه لفيلاطس القائد فتصايح الشعب بأسره يصلب يصلب فتحرج فيلاطس من قتله، وقال: أي شر فعل هذا فقال الشيوخ: دمه عليهم وعلى أولادهم فحينئذٍ ساقه جند القائد إلى الأبروطوريون فاجتمع عليه الشعب ونزعوه ثيابه وألبسوه لباساً أحمر وضفوا إكليلاً من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبة ثم جثوا على ركبهم يهزأون به ويقولون: السلام عليك يا ملك اليهود وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في رأسه ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه إلى موضع يعرف بالجمجمة فصلبوه وسمروا يديه على الخشبة فسألهم شربة ماء فأعطوه خلاً مدافاً بمرّ فذاقه ولم يسغه وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحاً مكتوباً هذا يسوغ ملك اليهود استهزاءاً به، ثم جاءوا بلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيراً له وكان اليهود يقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وإن كنت ابن الله كما تقول انزل عن الصليب، وقال اليهود: هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه إن كان متوكلاً على الله تعالى فهو ينجيه مما هو فيه؟ ولما كان ست ساعات من يوم الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم آلوي آلوي إيما صاصا أي إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني وأخذ اليهود سفنجة فيها خل ورفعها أحدهم على قصبة وسقاه، وقال آخر: دعوه حتى نرى من يخلصه فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح وانشق حجاب الهيكل وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا للناس ولما كان المساء جاء رجل من ألزامه يسمى يوسف بلفائف نقية وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة ثم جعل على باب القبر حجراً عظيماً وجاء مشايخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا: يا سيدي ذكرنا أن ذاك الضال كان قد ذكر لتلاميذه أنا أقوم بعد ثلاثة أيام فلو أمرت من يحرس القبر حتى تمضي المدة كي لا تأتي تلاميذه ويسرقوه ثم يشيعون في الشعب أنه قام فتكون الضلالة الثانية شراً من الأولى فقال لهم القائد: اذهبوا وسدوا عليه واحرسوه كما تريدون فمضوا وفعلوا ما أرادوا، وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقتها لينظرن إلى القبر. وفي «إنجيل مرقص» إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس وإذا ملك قد نزل من السماء برجة عظيمة فألقى الحجر عن القبر وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق فكاد الحرس أن يموتوا من هيبته ثم قال للنسوة: لا تخافا قد علمت أنكما جئتما تطلبان يسوع المصلوب ليس هو ههنا إنه قد قام تعالين انظرن إلى المكان الذي كان فيه الرب واذهبا وقولا لتلاميذه إنه سبقكم إلى الخليل فمضتا وأخبرتا التلاميذ ودخل الحراس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر فقالوا: لا تنطقوا بهذا ورشوهم بفضة على كتمان القضية فقبلوا ذلك منهم وأشاعوا أن التلاميذ جاءوا وسرقوه ومهدت المشايخ عذرهم عند القائد ومضت الأحد عشر تلميذاً إلى الخليل وقد شك بعضهم، وجاء لهم يسوع وكلمهم وقال لهم: اذهبوا فعمدوا كل الأمم وعلموهم ما أوصيكم به، وهو ذا أنا معكم إلى انقضاء الدهر انتهى. وههنا أمور: الأول: أنه يقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواتراً أو آحاداً فإن زعموا أنه آحاد لم تتم بذلك حجة ولم يثبت العلم إذ الآحاد لم يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض لهم ذلك فكيف يحتج بقولهم في القطعيات؟ا وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: أحد شروط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة بأن يكون الإخبار في كل طبقة ممن لا يمكن مواطأته على الكذب فإن زعمتم أن خبر قتل المسيح كذلك أكذبتم نصوص الإنجيل الذي بأيديكم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم وعليه معولكم: إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة قليلة من تلامذته فلما قبض عليه هربوا بأسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فلما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إليه فعرفته فقالت: هذا كان مع يسوع فحلف أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم حتى تركوه وذهب، ولم يكد يذهب وأن شاباً آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره بأيديهم وذهب عرياناً فهؤلاء أصحابه وأتباعه لم يحضر أحد منهم بشهادة الإنجيل، وأما أعداؤه اليهود الذين تزعمون أنهم حضروا الأمر فلا نسلم أنهم بلغوا عدد التواتر بل كانوا آحاداً وهم أعداء يمكن تواطؤهم على الكذب على عدوهم إيهاماً منهم أنهم ظفروا به وبلغوا منه أمانيهم فانخرم شرط التواتر. ويؤيد هذا أن رؤساء الكهنة فيما زعمتم رشوا الحراس فلا يبعد أن تكون هذه العصابة من اليهود صلبوا شخصاً من أصحاب يسوع وأوهموا الناس أنه المسيح لتتم لهم أغراضهم على أن الأخباريين ذكروا أن بختنصر قتل علماء اليهود في مشارق الأرض ومغاربها لأنهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوا حتى لم يبق منهم إلا شرذمة، فالمخبرون لم يبلغوا حد التواتر في الطبقة الوسطى أيضاً. الثاني: أن في هذا الفصل ما تحكم البداهة بكذبه، وما تضحك الثكلى منه، وما يبعده العقل مثل قوله للكهنة: إنكم من الآن ما ترون ابن الإنسان يريدون بالإنسان الرب سبحانه فإنه لم يرد إطلاق ذلك عليه جل شأنه في كتاب، وقوله: إن ناساً من القيام ههنا الخ فإنه لم ير أحد من القيام هناك قبل موتة عيسى عليه السلام آتياً في ملكوته، وقول الملك للنسوة: تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرب فإنه يقال فيه: أرب يقبر وإله يلحد، أف لتراب يغشى وجه هذا الإله، وتباً لكفن ستر محاسنه، وعجباً للسماء كيف لم تبد وهو سامكها وللأرض لم تمد وهو ماسكها وللبحار كيف لم تغض وهو مجريها وللجبال كيف لم تسر وهو مرسيها وللحيوان كيف لم يصعق وهو مشبعه وللكون كيف لم يمحق وهو مبدعه سبحان الله كيف استقام الوجود والرب في اللحود، وكيف ثبت العالم على نظام والإله في الرغام إنا لله وإنا إليه راجعون على المصيبة بهذا الرب والرزية بهذا الإله لقد ثكلته أمه، وعدمه لا أبا لك قومه؟ا وقوله: إلهي إلهي لم خذلتني فإنه ينافي الرضا بمرّ القضاء، ويناقض التسليم لأحكام الحكيم، وذلك لا يليق بالصالحين فضلاً عن المرسلين على أنه يبطل دعوى الربوبية التي تزعمونها والألوهية التي تعتقدونها، وقولهم: إنه قام كثير من القديسين من قبورهم الخ فإنه كذب صريح لأنه لو كان صحيحاً لأطبق الناس على نقله ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع، وقولهم: مضت الأحد عشر تلميذاً إلى الخليل الخ فإنه قد انطفأ فيه سراج التلميذ الثاني عشر على ما يقتضيه قول المسيح: ويل لمن يسلم ابن الإنسان مع أن يسوع بزعمكم قال لتلاميذه الاثني عشر وفيهم يهودا الإسخريوطي الذي أسلمه للقتل: إنكم ستجلسون يوم القيامة على اثني عشر كرسياً تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل، وقولهم: إنهم سألهم شربة ماء فإنه في غاية البعد لأن الإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوماً وأربعين ليلة ومثله لا يجزع من فراق الماء ساعة لا سيما وقد كان يقول لتلاميذه: إن لي طعاماً لا تعرفونه إلى غير ذلك. الثالث: إن ما ذكروا من قيام المسيح من قبره ليلة السبت مع صلبه يوم الجمعة مخالف لما رواه «متى في إنجيله» فإنه قال فيه: سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال: الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلا آية يونيان النبي يعني يونس عليه السلام لأنه أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال وكذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال الرابع: أن في هذه القصة ما يدل دلالة واضحة على أن المصلوب هو الشبه وأن الله تعالى حمى المسيح عليه السلام عن الصلب كما سيتضح لك مع زيادة تحقيق عند قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] هذا وإنما أكد الحكم السابق اعتناءاً به أو لأن تسلط الكفار عليه جعل المقام مقام اعتقاد أنهم يقتلونه، وأراد سبحانه بقوله: {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} رافعك إلى سمائي، وقيل: إلى كرامتي، وعلى كل فالكلام على حذف مضاف إذ من المعلوم أن البارىء سبحانه ليس بمتحيز في جهة، وفي رفعه إلى أي سماء خلاف، والذي اختاره الكثير من العارفين أنه رفع إلى السماء الرابعة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رفعه إلى السماء الدنيا فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه الله تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس. وفي الخازن أنه سبحانه لما رفعه عليه السلام إليه كساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً، وأورد بعض الناس ههنا إشكالات وهي أن الله تعالى كان قد أيده بجبريل عليه السلام كما قال سبحانه: {وأيدناه بِرُوحِ القدس} [البقرة: 87] ثم إن طرف جناح من أجنحة جبريل كان يكفي للعالم فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟ا وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكيف لم يقدر على إماتتهم ودفع شوكتهم، أو على إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين من التعرض له؟ وأيضاً لما خلصه من الأعداء بأن رفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير؟ وأجيب عن الكل بأن بناء التكليف على الاختيار، ولو أقدر الله تعالى جبريل، أو عيسى عليهما السلام على دفع الأعداء، أو رفعه من غير إلقاء شبهه إلى السماء لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، والقول بأن فتح باب إلقاء الشبه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وإبطال التواتر، وأيضاً إن في ذلك الإلقاء تمويهاً وتخليطاً وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى ليس بشيء، أما أولاً: فلأن إلقاء شبه شخص على آخر وإن كان ممكناً في نفسه إلا أن الأصل عدم الإلقاء واستقلال كل من الحيوان بصورته التي هي له، نعم لو أخبر الصادق بإلقاء صورة شخص على آخر قلنا به واعتقدناه فحينئذٍ لا يرتفع الأمان عن المحسوسات بل هي باقية على الأصل فيها فيما لم يخبر الصادق بخلافه على أن إبطال التواتر بفتح هذا الباب ممنوع لأنه لم يشترط في الخبر أن يكون عن أمر ثابت في نفس الأمر بل يكفي فيه كونه عن أمر محسوس على ما قاله بعض المحققين، وأما ثانياً: فلأن التمويه والتلبيس إن كان على الأعداء فلا نسلم أنه مما لا يليق بالحكمة وإن كانت النجاة مما تمكن بدون الإلقاء وإن كان ذلك على أوليائه فلا نسلم أن في الإلقاء تمويهاً لأنهم كانوا عارفين يقيناً بأن المطلوب الشبه لا عيسى عليه السلام كما ستعرفه إن شاء الله تعالى، والقول بأن المطلوب قد ثبت بالتواتر أنه بقي حياً زماناً طويلاً فلولا أنه كان عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ولو فعل ذلك لاشتهر وتواتر ليس بشيء أيضاً، أما أولاً: فلأن دعوى تواتر بقاء المصلوب حياً زماناً طويلاً مما لم يثبتها برهان والثابت أن المصلوب إنما صلب في الساعة الثانية من يوم الجمعة ومات في الساعة السادسة من ذلك اليوم وأنزل ودفن، ومقدار أربع ساعات لا يعد زماناً طويلاً كما لا يخفى، وأما ثانياً: فلأن عدم تعريف المصلوب نفسه إما لأنه أدركته دهشة منعته من البيان والإيضاح، أو لأن الله تعالى أخذ على لسانه لم يستطع أن يخبر عن نفسه صوناً لنبيه عليه السلام أن يفصح الرجل عن أمره، أو لأنه لصديقيته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه رغبة في الشهادة، ولهذا ورى في الجواب الذي نقلته النصارى في القصة وقد وعد المسيح عليه السلام التلاميذ على ما نقلوا قبل بقولهم لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا والشبه من جملتهم فوفى بما وعد من نفسه على عادة الصديقين من أصحاب الأنبياء عليهم السلام فهو من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومن ذهب إلى أن الشبه كان من الأعداء لا من الأولياء روى أنه جعل يقول لليهود عند الصلب: لست المسيح وإنما أنا صاحبكم لكنه لم يسمع ولم يلتفت إلى قوله وصلبوه، والقول بأنه لو كان ذلك لتواتر لا يخفى ما فيه لمن أحاط بما ذكرناه خبراً فتأمل. {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} يحتمل أن يكون تطهيره عليه السلام بتبعيده منهم بالرفع، ويحتمل أن يكون بنجاته مما قصدوا فعله به من القتل، وفي الأول: جعلهم كأنهم نجاسة، وفي الثاني: جعل فعلهم كذلك والأول هو الظاهر وإلى الثاني ذهب الجبائي. والمراد من الموصول اليهود، وأتى بالظاهر على ما قيل دون الضمير: إشارة إلى علة النجاسة وهي الكفر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أن المراد من الموصول اليهود والنصارى والمجوس وكفار قومه. {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} قال قتادة والحسن وابن جريج وخلق كثير: هم أهل الإسلام اتبعوه على ملته وفطرته من أمة محمد صلى الله عليه وسلم {فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} وهم اليهود أو سائر من شمله هذا المفهوم فإن المؤمنين يعلونهم بالحجة، أو السيف في غالب الأمر. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أن المراد من الموصول الأول النصارى، ومن الثاني اليهود وقد جعل سبحانه النصارى فوق اليهود فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق الدنيا وغربها، وعلى هذا يكون المراد من الأتباع مجرد الادعاء والمحبة ولا يضر في غلبتهم على اليهود غلبة المسلمين عليهم، وإذا أريد بالأتباع ما يشمل أتباع المسلمين، وهذا الاتباع يصح أن يراد بالمتبعين ما يشمل المسلمين والنصارى مطلقاً من آمن به قبل مجىء نبينا صلى الله عليه وسلم ونسخ شريعته، ومن آمن بزعمه بعد ذلك وقد يراد من الأتباع الأتباع بالمعنى الأول فيجوز أن يراد من المتبعين المسلمون، والقسم الأول: من النصارى، وتخصيص المتبعين بهذه الأمة وحمل الأتباع على المجىء بعد مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكتاب الكريم كجعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأن الوقف على {الذين كَفَرُواْ} {إلى يَوْمِ القيامة} متعلق بالجعل أو بالاستقرار المقدر في الظرف، وليس المراد أن ذلك ينتهي حينئذٍ ويتخلص الذين كفروا من الذلة بل المراد أن المتبعين يعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى ما يريد. ومن الناس من حمل الفوقية على العلو الرتبي والفوقية بحسب الشرف وجعل التقييد بيوم القيامة للتأييد كما في قولهم ما دامت السماء، وما دار الفلك بناءاً على ظن أن عدم انتهاء علو المؤمنين وذلة الكافرين إلى ذلك اليوم موجب لهذا الجعل وليس بذلك {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي مصيركم بعد يوم القيامة ورجوعكم، والضمير لعيسى عليه السلام والطائفتين، وفيه تغليب على الأظهر، و{ثُمَّ} للتراخي؛ وتقديم الظرف للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد، ويحتمل أن يكون الضمير لمن اتبع وكفر فقط، وفيه التفات للدلالة على شدة إرادة إيصال الثواب والعقاب لدلالة الخطاب على الاعتناء. {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي فأقضي بينكم إثر رجوعكم إليّ ومصيركم بين يدي {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور الدين، أو من أمر عيسى عليه السلام، والظرف متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل.
{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)} {فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} تفسير للحكم المدلول عليه بقوله سبحانه: {فاحكم} [آل عمران: 55] وتفصيل له على سبيل التقسيم بعد الجمع، وإلى ذلك ذهب كثير من المحققين، واعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة لا محالة، فكيف يصح تفسيره بالعذاب المقيد بقوله تعالى: {فِى الدنيا والاخرة}؟ا وأجيب بوجوه الأول: أن المقصود التأبيد وعدم الانقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة، الثاني: أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومهما اللغوي أي الأول والآخر، ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا أبعد من الأول جداً. الثالث: ما ذكر صاحب «الكشف» من أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي، وقوله سبحانه: {إلى يَوْمِ القيامة} [آل عمران: 55] غاية الفوقية لا غاية الجعل، والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود على وزان قولك: سأعيرك سكنى هذا البيت إلى شهر ثم أخلع عليك بثوب من شأنه كذا وكذا فإنه يلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا الخلع، وعلى هذا توفية الأجر لِغُنْمِ الدارين، ولا يخفى أن في لفظ {كُنتُمْ} في قوله جل وعلا: {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55] بعض نبوة عن هذا المعنى، وأن المعنى أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا. الرابع: أن العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم، والمعنى أضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة قال في «الكشف»: وفيه تقابل حسن وإن هذه الفوقية مقدمة عذاب الآخرة ومؤكدته، وإدماج أنها فوقية عدل لا تسلط وجود، ولا يخفى أنه بعيد من اللفظ جداً إذ معنى أعذبه في الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال: إن اتخاذ الكل لا يلزم أن يكون باتخاذ كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعل به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة. الخامس: أن في الدنيا والآخرة متعلق بشديد تشديداً لأمر الشدة وليس بشيء كما لا يخفى، والأولى من هذا كله ما ذكره بعض المحققين أن يحمل معنى {ثُمَّ} [آل عمران: 55] على التراخي الرتبي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذٍ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متأخراً عن الجعل في الزمان سواء كان قوله جل شأنه: {إلى يَوْمِ القيامة} [آل عمران: 55] غاية للجعل أو الفوقية فلا محذور، ثم إن المراد بالعذاب في الدنيا إذلالهم بالقتل والأسر والسبي وأخذ الجزية ونحو ذلك، ومن لم يفعل معه شيء من وجوه الإذلال فهو على وجل إذ يعلم أن الإسلام يطلبه وكفى بذلك عذاباً، وبالعذاب في الآخرة عقاب الأبد في النار {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله، وصيغة الجمع كما قال مولانا مفتي الروم لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لكل واحد منهم ناصر واحد.
{وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)} {وَأَمَّا الذين ءامَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات} بيان لحال القسم الثاني، وبدأ بقسم {الذين كَفَرُواْ} [آل عمران: 56] لأن ذكر ما قبله من حكم الله تعالى بينهم أول ما يتبادر منه في بادىء النظر التهديد فناسب البداءة بهم ولأنهم أقرب في الذكر لقوله تعالى: {فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} [آل عمران: 55] ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وهموا بقتله {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي فيوفر عليهم ويتمم جزاء أعمالهم القلبية والقالبية ويعطيهم ثواب ذلك وافياً من غير نقص. وزعم بعضهم أن توفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة والظاهر أنها أعم من ذلك وعلق التوفية على الإيمان والعمل الصالح ولم يعلق العذاب بسوى الكفر تنبيها على درجة الكمال في الإيمان ودعاءاً إليها وإيذاناً بعظم قبح الكفر، وقرأ حفص. ورويس عن يعقوب فيوفيهم بياء الغيبة، وزاد رويس ضم الهاء، وقرأ الباقون بالنون جرياً على سنن العظمة والكبرياء، ولعل وجه الالتفات إلى الغيبة على القراءة الأولى الإيذان بأن توفية الأجر مما لا يقتضي لها نصب نفس لأنها من آثار الرحمة الواسعة ولا كذلك العذاب، والموصول في الآيتين مبتدأ خبره ما بعد الفاء، وجوز أن يكون منصوباً بفعل محذوف يفسره ما ذكر، وموضع المحذوف بعد الصلة كما قال أبو البقاء ولا يجوز أن يقدر قبل الموصول لأن أما لا يليها الفعل. {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} أي لا يريد تعظيمهم ولا يرحمهم ولا يثني عليهم، أو المراد يبغضهم على ما هو الشائع في مثل هذه العبارة، والجملة تذييل لما قبل مقرر لمضمونه.
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)} {ذلك} أي المذكور من أمر عيسى عليه السلام والإتيان بما يدل على البعد للإشارة إلى عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف. {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} أي نسرده ونذكره شيئاً بعد شيء، والمراد تلوناه إلا أنه عبر بالمضارع استحضاراً للصورة الحاصلة اعتناءاً بها، وقيل: يمكن الحمل على الظاهر لأن قصة عيسى عليه السلام لم يفرغ منها بعد {مِنَ الايات} أي الحجج الدالة على صدق نبوتك إذ أعلمتهم بما لا يعلمه إلا قارىء كتاب، أو معلم ولست بواحد منهما فلم يبق إلا أنك قد عرفته من طريق الوحي {والذكر} أي القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ وتفسيره به لاشتماله عليه، و{مِنْ} تبعيضية على الأول، وابتدائية على الثاني وحملها على البيان وإرادة بعض مخصوص من القرآن بعيد {الحكيم} أي المحكم المتقن نظمه، أو الممنوع من الباطل، أو صاحب الحكمة، وحينئذ يكون استعماله لما صدر عنه مما اشتمل على حكمته؛ إما على وجه الإستعارة التبعية في لفظ حكيم، أو الإسناد المجازي بأن أسند للذكر ما هو لسببه وصاحبه، وجعله من باب الإستعارة المكنية التخييلية بأن شبه القرآن بناطق بالحكمة وأثبت له الوصف بحكيم تخييلا محوج إلى تكلف مشهور في دفع شبهة ذكر الطرفين حينئذ فتأمل، وجوز في الآية أوجه من الإعراب، الأول: أن ذلك مبتدأ، و{نَتْلُوهُ} خبره، و{عَلَيْكَ} متعلق بالخبر، و{مِنَ الايات} حال من الضمير المنصوب، أو خبر بعد خبر، أو هو الخبر وما بينهما حال من اسم الاشارة على أن العامل فيه معنى الإشارة لا الجار والمجرور قيل: لأن الحال لا يتقدم العامل المعنوي، الثاني: أن يكون ذلك خبراً لمحذوف أي: الأمر ذلك، و{نَتْلُوهُ} في موضع الحال من {ذلك} و{مِنَ الايات} حال من الهاء، الثالث: أن يكون ذلك في موضع نصب بفعل دل عليه نتلو فيكون {مِنَ الايات} حالا من الهاء أيضاً.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} {إِنَّ مَثَلَ عيسى} ذكر غير واحد أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: ما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد الله قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب فإن كنت صادقاً فأرنا مثله فأنزل الله تعالى هذه الآية». وأخرج البيهقي في «الدلائل» من طريق سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه {طس} [النمل: 1] سليمان: بسم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد الله إليكم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله تعالى إبراهيم في ذرية إسمعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل نبياً وليس لي في النبوة رأي لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبد الله بن شرحبيل، وحيار بن قنص فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة فأنزل الله هذه الآية {إِنَّ مَثَلَ عيسى} إلى قوله سبحانه: {فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين} [آل عمران: 61] فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه: إنى أرى أمراً ثقيلاً إن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فتلاعناه لا يبقى على ظهر الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً فقالا له: أنت وذاك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت خيراً من ملاعنتك قال: وما هو؟ قال: حكمك اليوم إلى الليل وليلك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية، وروي غير ذلك كما سيأتي قريباً، والمثل هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه والكاف زائدة كما قيل به بل بمعنى الحال والصفة العجيبة أي: إن صفة عيسى عندَ الله أي: في تقديره وحكمه، أو فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه، والظرف متعلق فيما تعلق به الجار في قوله سبحانه: {كَمَثَلِ ءادَمَ} أي كصفته وحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لوجه الشبه باعتبار أن في كل الخروج عن العادة وعدم استكمال الطرفين، ويحتمل أنه جيء بها لبيان أن المشبه به أغرب وأخرق للعادة فيكون ذلك أقطع للخصم وأحسم للمادة شبهته، و{مِنْ} لابتداء الغاية متعلقة بما عندها، والضمير المنصوب لآدم والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي صر بشراً فصار، فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحماً ودماً زمان طويل، فقد روي أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح؛ والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذاناً بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله، وذهب كثير من المحققين إلى أن {ثُمَّ} للتراخي في الأخبار لا في المخبر به، وحملوا الكلام على ظاهره، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي كما لا يخفى، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب، والقول بأنه عائد على عيسى ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه، قيل: وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه السلام من غير أب بخلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ثم إن الظاهر أن عيسى عليه السلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليها السلام بجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا إليه فيما تقدم. والقول بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب مما لا مستند له من عقل ولا نقل {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 12] لا يدل عليه بوجه أصلا.
|